سؤال هذا المقال هو: ما الذي يدفع الإنسان للعمل (النّصَب)؟ هناك أسباب مختلفة ومتنوعة تدفع الإنسان للعمل. ويقال أن هناك، ثلاثة أسباب رئيسية تجعل الإنسان يعمل (أو يقوم بعمل ما) بدلاً من الجلوس للراحة. هذه الأسباب يمكن تلخيصها بهذه المصطلحات الثلاث: المال والسمعة والآخرة. ولكي نوضح المفهوم أكثر يمكن أن نتخيل أن هناك بنك لكل مصطلح. بحيث يزيد الرصيد في هذا البنك كلما قام الإنسان بعمل حسن (أو اصطلح على أنه عملُ حسن) وينقص كلما قام الإنسان بالعمل المخالف.
ولنبدأ ببنك الآخرة. هذا البنك يتعامل مع الأشياء التي يعملها الإنسان طلباً للأجر والمثوبة. فمثلاً الصدقة وإماطة الأذى … إلى آخره، تزيد من رصيد الإنسان في هذا البنك والأعمال السيئة تزيد من رصيد الإنسان السيء. هذا البنك يدخر هذا الرصيد للإنسان في الآخرة ليحاسب على أعماله. وهذه الأعمال لها نصيب من البركة في هذه الحياة الدنيا أيضاً. ميزة هذا الحساب أنه حساب استثماري وليس جاري. بمعنى أن رصيد الحسنات فيه تزيد وليست ثابته.
ثانياً بنك السمعة، وهذا البنك تكتسب منه السمعة الحسنة بالأفعال التي يقدرها المجتمع. فالأعمال الحسنة تكسب سمعة جيدة والأعمال السيئة تكسب سمعة سيئة. وتتفاوت مقدار السمعة (الرصيد) بحسب الأعمال فبعضها تكسب رصيد عالي وبعضها يكسب رصيد قليل. فمثلاً عمل سيء واحد يمكن أن يفقد الانسان سمعة حسنة كسبها عبر السنين والعكس صحيح. هذا البنك يمكن أن يستفيد منه صاحب الحساب والسحب من رصيده بحسب الحاجة إليه. ولكن مشكلة هذا الحساب هو أنه محدود التعامل مع الأشخاص الذين يعترفون بهذا البنك ويتعاملون معه. وأيضاً محدوديته على الأشخاص الذين يعرفون أو سمعوا عن سمعة الشخص الذي يريد السحب من رصيده. “فلو قدر على هذا الشخص التعامل مع شخص لا يقدر إلا المال لن تنفع السمعة مع هذا الشخص. “
البنك الأخير هو بنك المال. وهذا البنك هو البنك المعروف لدى الناس ولديه وجود حقيقي ومباني وموظفين. يكون رصيد الإنسان فيه محدد برقم. فيكون الإنسان موظف أو تاجر أو غيره بحيث يضع فيه مبالغ مالية يمكنه معها زيادة رصيده المالي. هذا البنك يتعامل معه الغالبية. ففي كل مكان تجد رقم وضع بجانب الخدمة أو السلعة وهو ما يحدد سعرها. فالمحال التجارية هي في الغالبية من يتعامل معه. ويمكن القول أن غالبية القطاعات أخذت تعتمد على هذا البنك لتسيير جميع أعمالها. حيث سهل هذا البنك عملية القياس للأعمال التي تقوم بها هذه القطاعات. فكلما كان رقم الرصيد كبيراً، فهذا يدل على أن أعمالها كبيرة وهكذا. ما يميز هذا البنك هو عند طلب خدمة أو محاولة السحب من الرصيد تكون الخدمة متوفرة لمن يضع مقابل مالي للخدمة أو البضاعة. وتتم بسرعة ما دام أن البنك يعترف بوجود هذا المبلغ المالي لدى الشخص. فلا يجب أن يكون الشخصان المتعاملان (مقدم الخدمة أو السلعة وطالبها) يعرفان بعضهما البعض. المهم أن البنك يضمن أن طالب الخدمة يستطيع دفع المقابل المالي المطلوب. هذا البنك يتميز بتسهيل الإجراءات ما دام هناك مقابل مالي لمن يطلب الخدمة ومن يقدمها.
التعامل بين هذه البنوك الثلاث ممكن ومتنوع. فمثلاً ممكن أن يقدم الشخص مقابل مالي لبناء مسجد وأيضاً هناك أعمال باستطاعة الشخص أن يعملها وتعزز من رصيده في البنوك الثلاث. وليس شرطاً أن تكون جميع الأعمال محتكرة على بنك واحد. وأيضاً هناك أعمال تكون محتكرة على بنك واحد. الذي يحدد ذلك هو العمل والنية وطريقة تقديم العمل. ومنذ القدم عرف الإنسان كيف يحفز أقرانه على العمل. فأذكر قديماً في حارتنا الصغيرة وقبل الانترنت والجوالات، كانت الأمهات تتبادل المواعين والقدور. وكان مندوب التوصيل هو أطفالهم الصغار. فكانت الأم تعطي القدر لصغيرها وتخبره بأن يوصله إلى جارتهم فلانة. فإذا كانت هذه الجارة ممن يعطون “الشرط” بما يرغبه الأطفال كان التنافس لإيصال الأغراض لها شديداً. وإن كانت ممن يعطون شرطاً قليلاً أولا شيء. ففي هذه الحالة تلجأ الأم إلى أكثر أطفالها إطاعة لها ليقوم بالتوصيل وفي أحيان أخرى تقدم الأم أجر الخدمة مقدماً. وبالنسبة للأطفال فكان الشرط عبارة حبات من الحلاوة وقليلاً جداً ما تكون ريال أو ريالان.